حسين يحدث باستغراب في ذلك الزائر الغريب، فهذا رجل دخل وألقى التحية، ومن ثم وقف عند قدمه وبقي صامتاً، فبقي حسين صامتاً بدوره ينتظر أن يقول ذلك الزائر شيئاً، لم هو هنا؟ ماذا يريد؟ ربما دخل الغرفة الخطأ، بقي ينتظر دون فائدة، فخاطبه قائلاً:
- هل أنت هنا بالخطأ؟
أجابه الرجل:
- لا، أنا هنا من أجلك أنت يا حسين.
أجاب حسين باستغراب:
- أرجو المعذرة، ولكنني لا أذكر بأني التقيتك سابقاً، فمن أين تعرفني؟
- بالفعل، أنت لا تعرفني، ونحن فعلاً لم نلتق سابقاً، فأنا أملك الموت يا حسين.
ارتعدت فرائصه من شدة الخوف، ولم لا؟ فهو واقف أمام الموت بعينه، فلا يهم هنا إن كان مؤمناً أم لا، فالموت مخيف ومهيب، ولا يوجد من لا يخاف منه، حتى المؤمن شديد الإيمان لابد وأن يخاف من الموت، فالموت يمثل تلك اللحظة الحاسمة التي سيعرف فيها الشخص نتيجة ذلك الامتحان الطويل، الذي يسمى الحياة الدنيا، ولا يوجد هناك من لا يخاف وهو ينتظر خروج نتيجة امتحانه، خصوصاً لما يكون ذلك الامتحان هو آخر امتحان، وستكون نتيجته حاسمة، وهي التي ستحدد مصير صحابها إلى الأبد.
استجمع ما تبقى له من رباطة جأش، وقال وقد طغى خليط من الحزن والخوف على نبرة صوته:
- قد حانت الساعة إذن، فمتى ستبدأ في قبض روحي؟
- وقت تشاء أنت، فأنا لا أفعل ذلك للمؤمنين إلا بإذنهم.
ارتاح قليلاً لكلام ملك الموت، فخف الحزن في نبرته، وذهب الكثير من الخوف:
- إن كان الأمر كذلك فأرجوك أن تفعل ذلك الآن وبسرعة، فأنا لا أطيق الانتظار وفكرة الموت أمامي، ولكني أستحلفك بالله بأن تتلطف معي.
- لا تخف، فأنا سأكون معك أرحم عليك من أمك، فقط أغمض عينيك لكي أبدأ، ولا تخف من شيء.
أغمض حسين عينيه، فشعر فجأة بقشعريرة لطيفة تسري في جسده، كما شعر أيضاً وكأنه يطفو فوق الماء، شعر تماماً كمن كان يشعر بعطش شديد فحصل على شربة ماء باردة، لتسري برودتها ليس في حلقه فقط بل في كامل جسمه، في خارجه كما في داخله، كان يشعر كما لو أن ذلك الماء البارد قد غسل جميع ما في داخل جسمه، فالتفت إلى ملك الموت، وقال:
- المعذرة يا سيدي، فياله من شعور جميل الذي أشعر به الآن، ولكن يا حبذا لو تبدأ بقبض روحي، فأنا لا أطيق الانتظار وفكرة الموت أمامي.
- لقد انتهيت من ذلك بالفعل فأنت الآن ميت.
.. "ماذا؟!
هل فعلاً انتهى الأمر؟!
أهذا هو الموت الذي طالما أرعبنا ذكره؟!
ولكن كيف ذلك، وأنا لا أزال أحس وأسمع وأرى؟!"
بدأ يلتفت يميناً ويساراً، ينظر إلى يديه وبقية جسده وهو لا يكاد يصدق أنه ميت، ينظر لنفسه فيرى نفسه واقفاً ويرى جسده في نفس الوقت ممدداً على السرير، تذكر حينها أحد الكهنة الهندوس الذي التقاه في إحدى سفراته قبل سنوات حين أخبره بأن هذا الجسد ما هو إلا غلاف لما هو أفضل وأسمى منه وأنه بالضبط كالصدفة القبيحة التي تحوي اللؤلؤة الجميلة.
التفت إلى ملك الموت الذي مازال واقفاً مكانه، وقال ولكن هذه المرة ابتسامة عريضة مرتسمة على وجهه:
- لو كنت أعرف بأن الموت بهذه السهولة لتمنيته منذ زمن طويل، فعلى الأقل زالت جميع آلامي وانتهت أمراضي.
- بل وقد عدت شاباً مجدداً، عموماً ليس هذا الشيء الممتع في الموت، فهناك الكثير من الأمور السارة والتي ستقر عينك بها لا تزال في انتظارك، ومن جهة أخرى أنا لا أقبض أرواحاً بل أقبض الأنفس، فالنفس هي من تذوق الموت.
أطلق أحد الأجهزة التي كانت تحيط به صوت قوي، فأتت ممرضتان مسرعتان، وبدأتا مباشرة بمحاولة إنعاش قلبه، وبعد دقائق أصبح في الغرفة مجموعة من الممرضات والأطباء، كلهم يحاولون إعادته إلى الحياة مجدداً، ولكن دون جدوى.
كل هذا يحدث وهو واقف يتفرج عليهم من إحدى زوايا الغرفة، ومعه ملك الموت.. "مساكين يتعبون أنفسهم بلا فائدة، فقد قضي الأمر، وأنا الآن في عداد الأموات!".. هنا تكلم ملك الموت قائلاً:
- حسناً يا حسين: فلنذهب الآن إلى المقبرة حيث يجهز قبرك لاستضافتك، فهناك بعض الأمور التي يجب أن تمر بها قبل أن تستقر.
التفت حسين، وكأنه يريد أن يتأكد مما قيل له جيداً:
- كأنك قلت قبري؟! أي قبر هذا الذي تتكلم عنه!! فأنا مت للتو، ولا يعلم أهلي بعد بالأمر، ولن يتم حفر القبر، ولن أدفن قبل ساعات من الآن.
ابتسم ملك الموت:
- أنت الآن في عالم آخر غير العالم الذي تعرف، وعاملا المكان والزمان اللذان تعرف لا يلزمانا هنا في هذا العالم بشي، بل إن جميع قوانين الطبيعة لا تلزمنا هنا، فحاول أن تتكيف مع عالمك الجديد وأن تتخلص من قيود الحياة الدنيا، سوف نغادر الآن، وسترى بنفسك.
قبل أن يغادرا سمع إحدى الممرضات تقول لصاحبتها: هذان الرجلان مسكينان، فقد عاشا معاً كصديقين وها هما يموتان في نفس اللحظة، أمر لا يحدث إلا في الأفلام. كان ذلك قبل المغادرة بثانية أو اثنتين وفي لمح البصر وجد نفسه وملك الموت واقفين في المغسل حيث يجهز الموتى للقبر.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا