6
في الأثناء المشيعون يحملون جنازة حسين، ويتجهون بها إلى القبر، وكما الحال مع سعيد، كان يطفو فوق الجنازة على ارتفاع أمتار قليلة، ويرى بالضبط ما رأى سعيد من أحوال الناس وصورهم الحقيقية، لكنه بعد وضع جثته داخل القبر لم يشعر بقوة جذب، بل برغبة قوية للدخول، رغبة لا قوة جذب فيها ولا جبر، فتقدم ببطء استجابة لتلك الرغبة، وقبل أن يدخل لاحظ وجود شخصين وسيمين ينظران إليه وهما يبتسمان، فاستغرب الأمر، خصوصاً وأنهما يحدقان فيه وكأنهما يرانه بالفعل، فتساءل في نفسه إن كان هذان الاثنان فعلاً يستطيعان رؤيته، فتقدم منهما سائلاً:
- لماذا تحدقان بي هكذا؟ هل تستطيعان رؤيتي؟
أجاب أحدهم:
- نحن نستطيع ذلك، فنحن الوحيدان هنا اللذان يستطيعان رؤيتك.
تلفت يميناً ويساراً وكأنه يبحث عن المزيد ممن يستطيعون رؤيته:
- ولكن كيف ذلك؟
أجاب نفس الشخص، وقد رسم ابتسامة على وجهه أسهل ما يستشعر منها هو كم اللطف التي تحويه:
- ليس مهم الآن معرفة كيف نستطيع أن نراك، فنحن هنا فقط من أجل سؤالك عن أمر ما فهل لنا بالسؤال:
أجاب، هو لا يزال يلتفت:
- بالتأكيد تفضل.
فقال نفس الشخص سائلاً:
- هل تعرف من هو ربك، وما هو كتابك؟
- نعم، الله تعالى ربي، والقرآن كتابي..
رد نفس الشخص قائلاً:
- حسناً إذن تستطيع الآن الدخول إلى قبرك لترتاح هناك.
لم يتحرك من مكانه، وقف ينظر لهما قبل أن يسأل:
- ولكن لم تخبراني من أنتما؟ وماذا تفعلان هنا؟ وكيف تستطيعان رؤيتي؟
أجاب الشخص الآخر:
- أنت تعرفنا باسم منكر ونكير، وقد كنا نسألك الأسئلة المعتادة، وكما أننا هنا لنبشرك بنجاتك.
رد حسين متفاجئاً:
- ولكني توقعت سؤال القبر شيئاً شديداً؟
أجاب الشخص الآخر:
- نعم هو كذلك، لكن الأمر ليس دائماً نفسه لكل الناس، فالسؤال يختلف باختلاف الناس، واختلاف درجات إيمانهم، ومدى حسنهم أو سوئهم، عموماً تستطيع دخول القبر الآن، فهناك بعض الأمور التي يجب عليك إنهاءها قبل أن تستريح إلى الأبد..
توجه بعد ذلك إلى القبر بخطوات بطيئة، وهو لا يزال ينظر لمنكر ونكير، وكأنه لم يصدق تماماً بأن سؤال القبر قد انتهى بالفعل، فالذي سمعه عن الأمر وقرأه يقول خلاف ما رأى، وليس من السهل على أي كان التخلص من ثقافة ترعرع عليها حتى كبر وهرم.
رائحة عطرة تخرج من القبر، تنتشر في الأجواء من حوله، رائحة تزداد قوة كلما ازداد قرباً، وحين اقترب من الجثة لاحظ وجود فتحة صغيرة عند رأسها، فتوجه إليها مباشرة، فإذا بها تتسع لتصبح بحجم النافذة تقريباً، فدخل فيها ليجد نفسه جالساً في غرفة كبيرة، ينتشر في أرجائها عبق تلك الرائحة العطرة التي وصل مادها لخارج القبر.
غرفة مفروشة بأفضل المفارش، مطلية بلون أبيض يجلب الهدوء والسكينة، يوجد بها بالإضافة إلى السرير بضع أرائك متناثرة في أرجائها، مختلفة الأحجام والأشكال والألوان، بالإضافة إلى أن حجمها كبير بكل المقاييس التي يقيس بها، فهي غرفة بحجم شقة.
جلس على إحدى الأرائك، وأخذ يفكر فيما بعد، ما الذي سيحصل الآن، وهل يوجد شيء آخر في الغرفة غير الأرائك؟ ماذا سيجري عليه؟ هل انتهى الأمر وسيبقى هنا إلى الأبد؟! وماذا في ذلك!! فالمكان واسع وهو مصداق فعلي لفكرة القبر الواسع التي كان يحلم بها عندما كان في الدنيان فبالرغم من قراءته الواسعة عن عالم البرزخ والحياة فيه، إلا أنه سبق وأن قرأ أيضاً لمن لا يرى القبر إلا أحد احتمالين، واسع مريح أو ضيق ممتلئ بالنيران.
هنا تذكر سعيد، وأخذ يتساءل ما هي أحواله؟ وما هي أخباره؟ أين هو الآن يا ترى؟! فقد كان قلقاً عليه أشد القلق، وكيف لا يقلق وهو العارف بما ينتظره، بل وكيف لا يقلق وهو الذي بدأ بمقارنة وضعه في هذه الغرفة الكبيرة فيما يمكن أن يكون وضع صديقه في ذلك القبر الضيق.
غاص جسده في ذلك المقعد الوثير وعقله يشتعل بالأفكار.
"هل هو يعذب أم لا يزال مستلق في قبره لا يعرف ما الذي سيأتيه؟!
هل كان موجوداً عندما أخبرته ما يجب عليه فعله؟
هل نجا من سؤال منكر ونكير؟! أم تراهما ضرباه؟!
أتمنى أنه كان في المغسل حينها وسمعني، وإلا فإنه سيلاقي عذاباً شديداً، أي سعيد، يا لك من أحمق، فلو أنك تركت الكبر عنك فلربما كنت مرتاحاً الآن، وتستلقي في قبر متسع كقبري هذا، لكن ما عساي أن أقول! وأنت الذي فضل الحفاظ على كبرياء لا قيمة له هنا ولا وزن على هذا النعيم".
بقي لمدة طويلة نسبياً وهو جالس وحده، بعدها رأى نفسه يعود بصورة تلقائية إلى جسده الميت، وهناك وجد شخصاً جالساً وهو يبتسم إليه، فبادله بابتسامة أعرض من ابتسامته، ومن ثم قال:
- من أنت؟ ولم أعدتني إلى جسدي مجدداً؟
- أنا هنا لكي أسجل معك كل أعمالك، لذا أنا سأملي عليك، وأنت يجب أن تكتب كل ما أقول لك، بعد ذلك سيبقى هنا أمر واحد ترجع بعده إلى حيث كنت.
- ولكني لا أملك ما أكتب به، وما أكتب عليه.
- من هذه الناحية لا تحمل هماً، اقطع جزاءً من كفنك لتكتب عليه، واستخدم أصبعك وريقك للكتابة.
قطع قطعة صغيرة من كفنه، وقد استغرب من طريقة تجاوب القماش معه، وكأن القماش يريد أن يقطع، فبدأ الشخص بالإملاء، وهو بالكتابة، وقد استغرب كثيراً بسبب أنه كلما كتب كلما اتسعت قطعة القماش أكثر للكتابة، دون أن يزداد حجمها الطبيعي، بعد ذلك أخذ الشخص قطعة القماش وصنع منها بطريقة سريعة قلادة جميلة، وضعها برفق على عنقه، قائلاً له بأن هذه القلادة ستبقى معه إلى يوم البعث، بعد ذلك استأذن وغادر المكان.
بعد أن اختفى الرجل، لاحظ أن المكان يضيق عليه شيئاً فشيئاً، فالقبر يتحرك كما لو أن له آلات تحركه، ضاق حتى أصبح يحيط به، ويلتصق به من كل جهة، حتى الأصابع، كان القبر يحيط بكل أصبع على حدة، ب بكل شعرة على حدة، بعد ذلك شعر بضغط قوي يزداد تدريجياً مصاحباً لضيق شديد، فقد أصبح يشعر بأنه في شيء أشبه ما يكون بالمعصرة.
بقي الضغط والضيق في ازدياد، إلى أن وصل إلى لحظة لم يستطع الصمود معها، فخر مغشياً عليه.
***
لم يكن يعرف كم ساعة بقي في حالة فقدان الوعي، عندما فتح عينيه، ووجد نفسه مستلقياً على ذلك السرير الوثير، في تلك الغرفة الكبيرة، وقد انتبه إلى وجود شخص جالس على إحدى الأرائك وهو ينظر إليه، فاعتدل جالساً، وقد بدأ يشعر بقليل من الخوف:
- هل أنت من أعادني إلى هنا؟
قال والخوف يرتسم مع كل حرف من كلماته، فابتسم الرجل، وقال:
- لا، بل عدت بشكل تلقائي بعد أنت انتهت ضغطة القبر تلك.
قام هذا الشخص من مكانه، وتوجه ناحيته، ومد يده مصافحاً إياه، فتردد قليلاً قبل أن يمد يده، وهي ترتعش:
- أنا أدعى بالصالح، وأنا نسخة طبق الأصل عنك، أعني من الناحية الفكرية والعقائدية والأخلاقية، لا من الناحية الشكلية، أنا نفسك التي طوعتها وزكيتها.
أخرج نفساً، ومعه الكثير من القلق والخوف، وابتسامة عريضة مرتسمة على كامل محياه:
- يا ليت لو كان الشبه شكلياً أيضاً.
- لو ترى نفسك يا حسين فأنت أكثر وسامة مني بكثير، قم الآن وتعال معي لتأكل شيئاً، وسنتحدث بعد ذلك، فأنا أعرف بأنك لديك أسئلة كثيرة.
شعر بألفة تجاه الصالح، وكأنه يعرفه منذ زمن طويل، ألفة سببها الأول ابتسامة الصالح التي تفرض الشعور بالاطمئنان، فلم يتساءل حتى عمن يكون هذا الرجل بالفعل، وما هي مهمته، ولم هو هنا، فقام من مكانه وتوجه إلى طرف الغرفة حيث كانت توجد طاولة كبيرة، وقد امتلأت بما لذ وطاب من الطعام، فجلس، وقد انبهر بسبب الطعام، سواء كماً أو نوعاً، وقبل أن يبدأ بالأكل، قال الصالح:
- هذا الطعام لا يختلف كثيراً عن طعامكم في الدنيا، هو ألذ بقليل من ألذ طعام يطهى لديكم، لكنه ليس بشيء مقارنة بالطعام الذي ستأكله حين تستقر بك الأمور.
كان على وشك البدء بالأكل، فتوقف ونظر إلى الصالح، وقد لفتت انتباه عبارة (حين تستقر بك الأمور),َ
- في الواقع أن أشعر وكأني ضائع، فأنا لا أعلم ما ينتظرني هنا، وماذا سأفعل وأين هو مستقري الذي تتكلم عنه، فمثلاً: قبل قليل كنت قد ارتحت كثيراً عندما وجدت نفسي في هذه الغرفة الجميلة، ولم أتوقع بأنني سأتعرض بعد هذا النعيم إلى تلك الضغطة القوية، فهل لك أن تشرح لي الأمور قليلاً؟ فالمعرفة الآن أهم من الطعام، خصوصاً معرفة ماذا ينتظرني في هذا العالم.
سكب الصالح كأساً من العصير، وقال وهو يناوله إياه:
- في البداية يجب أن تعلم بأن تلك الضغطة كانت آخر شيء تتعرض له مما تكره، وهي ضرورية لإزالة جميع ما تعلق بك من أوساخ الدنيا، بعد ذلك لن ترى إلا ما يسرك بإذن الله، أنت هنا الآن بشكل مؤقت، وستغادر هذا المكان قريباً، وسآخذك إلى مكان آخر، وهناك ستتعلم كيفية التعايش مع هذا العالم الجديد، لن أشرح لك الآن ماذا يوجد هناك، لكني على يقين بأنك ستسر بما سترى.
بدأ يتلفت في المكان، ومن ثم قال وهو يرسم ابتسامة خجولة على وجهه:
- أي مكان هذا؟ فأنا لم أكن أحلم بأن أحصل على قبر بهذه السعة وهذا الجمال! أعتقد بأن المكان هنا مناسب لي، فهل لي أن أبقى هنا، فالمكان واسع، والطعام متوفر.
ابتسم الصالح، وبقي ينظر مباشرة إلى عينيه قبل أن يقول:
- لا تقرر سريعاً هكذا، فأنت لا تزال تجهل ما جهز لك من قرة عين، لا تستعجل الأمور، وسترى كل شيء بعينيك لاحقاً، كل شيء في وقته، ولكن ثق بأن الذي ينتظرك هناك لا يقارن بهذه الغرفة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا