الفجر الذهبي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-12-12

"الفجر الذهبي".. 

على مدى التاريخ، تستفيد العقائد والجماعات والفرق من بعضها البعض. كل من يتصدى لاختراع جماعة جديدة، يجد أمامه تنوعاً من الخيارات، ينتقي منها ما يراه مناسباً للزعامة التي يصبو إليها. ومع التنوع الكبير في طبيعة نشاط كل جماعة أو فرقة، فإنها جميعاً تندرج تحت نمط من الأنماط التالية: ديني، أو تأهيلي، أو إدراكي، أو أصولي، أو عسكري. وهذه الجماعات تكون ذات توجيهات مختلفة، وبعضها يستهدف ترقية مستوى إدراك العضو، وبعضها يتسم بالعنف تجاه الذات أو الآخرين، وبعضها تكون له أهدافه السياسية التي يسعى بها إلى التأثير على الحكومات، وبعضها يلتزم بالتطهر والزهد بينما يندفع البعض الآخر إلى الملذات والجنس. بعض أتباع هذه الجماعات تستطيع أن تستدل عليهم من تصرفاتهم وأفكارهم، والبعض الآخر قد لا تشعر أنه يختلف عن أي شخص آخر ممن هم حولك في عملك أو سكنك. مثال ذلك ما جاء في كتاب "العقائد الغريبة". 

الوجه الآخر لموظف البنك: 

جرى هذا عام 1897، أي منذ قرن كامل. ألفريد سمايث، في الخمسين من عمره، يعمل كاتباً في أحد البنوك. طوال أيام الأسبوع، يجلس خلف مكتب ضخم، يدون الأرقام فوق أكوام الأوراق التي تزحم مكتبه، معالجاً تدفق الجنيهات والشلنات والبنسات. 

في السادسة تماماً، يرتدي معطفه ويضع قبعته على رأسه، ويتناول مظلة المطر، ويركب سيارة أجرة إلى منزله، بشارع ميدافيل، ليتناول عشاءً هادئاً مع زوجته. ثم يقرأ قليلاً، قبل أن ينام. 

في بعض الأمسيات، يمضي سمايث إلى منزل عادي المظهر بواسط لندن، معروف لديه وقلة من الآخرين باسم "هيكل إيزيس - يورانيا، لجماعة الفجر الذهبي". 

هناك، يدخل سمايث إلى عالم مختلف تماماً عن عالمه اليومي المعتاد. القناديل والشموع ودخان البخور، يضفي على القاعة جواً من الغموض، بالإضافة إلى ما تضمه القاعة من الرموز: وردة، وصليب، وهرم ناقص القمة، وتنين أحمر. 

في هذه القاعة، يتحول السيد سمايث موظف البنك، إلى شخص آخر. إنه الآن يرتدي رداءً طويلاً، عليه شارات ملونة، ويمسك بصولجان زهرة اللوتس، كرموز لاعتزام دخول الجو السحري. إنه مع غيره من الرجال والنساء الذين تضمهم القاعة، من أتباع عقيدة الفجر الذهبي، خبراء في الأعمال السحرية. 

فن وعلم تغيير المدارك: 

زملاء السيد سمايث في البنك، لا بد أنهم ينفجرون بالضحك، لو ذكر أحدهم أمامهم كلمة "سحر"، فالعقل المعاصر المستنير لا يتصور وجود مثل هذا. ولكن، بالنسبة لأتباع "الفجر الذهبي"، لا يعتبر السحر حقيقياً فقط، بل من الأمور ذات الأهمية العظمى. إنه في عقيدتهم "علم وفن إحداث التغيرات في المدارك".

وأعضاء هذه العقيدة يؤمنون بأن دراسة تعاليم هذه العقيدة، المستمدة من الكتابات السحرية القديمة، وأداء طقوسها المعقدة، يتيح لهم الهرب من قيود العالم المادي، وأن "يصبحوا داخل الضوء". ويؤمنون بأن القوى السحرية، وفنون ما وراء الطبيعة، تعمل مؤثرة على الكون، وأن الأتباع المدربين يمكنهم أن يضعوا هذه القدرات والخبرات موضع التنفيذ. 

المعارف المرفوضة: 

والفجر الذهبي، هي نتاج عدة عوامل في التاريخ الاجتماعي للقرن التاسع عشر في إنجلترا. وقد تأثرت بتاريخ الحركة الروحانية إلى حدٍ بعيد. 

ونتيجة لهبوط حماس الناس بالنسبة لحركة الروحانية، بما شابها من خداع على يد جيش الوسطاء الروحانيين، توجه عدد من الرجال والنساء إلى دراسة ما كان يعرف باسم "المعارف المرفوضة"، أي المرفوضة من جانب المؤسسات الرسمية لعدم قيامها على أسس عقلية. وقاد إلى اهتمام متزايد بجماعات "البنائين الأحرار"، التي نعرفها اليوم باسم "الماسونية". وقد ظهرت حركة "الفجر الذهبي" في ذلك الطقس. 

مؤسس الحركة هو دكتور وليام ويستكوت، أحد أطباء القلب في لندن. وتقول وثائق هذه الحركة، أن د. ويستكوت توصل إلى خططه من أجل تنظيم عقيدة سرية غير مسبوقة، بعد شهور من استقرار هيلينا بلافاتسكي في لندن، عام 1887. وكان وصولها إلى لندن سبباً في زيادة الاهتمام بنشاط العقيدة الثيوصوفية. غير أن ويستكوت كان يطمح إلى ما هو أبعد. لقد كان يريد تشكيل عقيدة سرية، لا يسهل الدخول فيها كما كان الحال في الثيوصوفية والماسونية.

المخطوطات السرية المشفرة: 

كيف توصل ويستكوت إلى ذلك التركيب المحكم لعقيدته؟ 

في عام 1887، سلّم القس وودفورد إلى ويستكوت ستين صفحة من مخطوط مكتوب بالشفرة. كان المخطوط مكتوباً على ورق قديم، وقد أضفى الحبر الذي أصبح حائلاً طابع القدم عليه. وقد ثبت بعد ذلك أن المخطوط لم يكن قديماً، كتبه شخص مجهول في وقت قريب من ظهوره بين يدي ويستكوت. 

استطاع ويستكوت أن يفك شفرة المخطوط، وبعد أول قراءة له، وضع يده على خمسة طقوس، شعر أنها تصلح أساساً لعقيدة "الفجر الذهبي". وعلى الفور استدعى رجلاً يدعى ماذرز ليكون نائبه في هذه الجماعة، ومساعده في استنباط الطقوس اللازمة من المخطوط. وقد استفاد ويستكوت من انتسابه إلى الحركة الماسونية، في وضع الشكل التنظيمي للجماعة، وتسلسل القيادات فيها. وفي عام 1888، انتهى ويستكوت من كتابة الوثيقة الغريبة، التي كانت أول ما يقدم إلى الأتباع الجدد. 

هيكل إيزيس - يورانيا: 

وما إن حل عام 1891، حتى كانت الجماعة قد اجتذبت ما يزيد عن ثمانين من الأتباع، من بينهم 42 امرأة. كما تم إنشاء فرع لهيكل إيزيس - يورانيا في مدينة برادفورد، يضم حوالي ثلاثين من الأتباع. 

وفي عام 1892، أزاح ماذرز رئيس الجماعة ويستكوت، وأعاد تنظيم الجماعة مستأثراً بالقيادة. واستطاع بمساعدة زوجته الرسامة، أن يضفي على مقر الجماعة العديد من التأثيرات القوية، التي كانت تفقد الأعضاء الجدد مقاومتهم (وهي الأشياء التي أشرنا إليها عند الحديث عن موظف البنك سمايث). وبقي لدكتور ويستكوت أن يدير ما أطلق عليه "النظام الخارجي" في لندن. 

وكان جموح ماذرز سبباً في مرور الجماعة بحالات من الخلاف والتمزق. 

واليوم، لم يعد للفجر الذهبي وجود كتنظيم، وإن كانت الدراسات متواصلة لتاريخ الجماعة وتوجهاتها السحرية. 

الشاعر ييتس، عاشق الغوامض: 

ولعل من بين أشهر أعضاء الفجر الذهبي، الشاعر الأيرلندي ييتس. وفي إحدى النشرات التي تتحدث عن نظام الامتحانات للدخول في العقيدة، يقول ييتس: "الانتقال من درجة إلى أخرى، عبارة عن استغاثة موجهة إلى الحياة الأعلى، وخطو في المسار الرمزي، وممر عبر البوابة الرمزية، وتسلق تجاه النور الذي هو أساس نظامنا، من أجل أن يتدفق الإيمان بشكل دائم من أسفل الدرجات المرئية، إلى ذرى الدرجات المعروفة لنا". 

من كلمات ييتس يمكننا أن نلتقط لمحات من عنصر الجذب الذي يتوافر لدى هذه الجماعات، بالنسبة للعديد من البشر. معظم العقائد تعد الأتباع بإقامة حياة أكثر ثراء. وعن طريق دراسة تعليمات العقيدة، والمشاركة في طقوسها، يمكن للفرد أن يرتقي فوق الحياة الميكانيكية الدنيوية، التي يأخذ بها عادة، ويرتبط بنوع من القوة. 

ولا يمكن لأحد أن يفهم بشكل كامل أشعار وليم بتلر ييتس، دون أن يدخل في الاعتبار انشغاله العميق على امتداد سنين حياته بالعقائد الغريبة والغوامض. وهو يقول في أحد خطاباته، "الحياة الغامضة، هي مركز كل ما أفعله وأفكر فيه وأكتبه". 

ولقد مر تعلق ييتس بالغوامض في عدد من الأطوار. كان أولها ارتباطه بعقيدة "الثيوصوفية"، والتي عرفها عندما كان في السابعة عشر من عمره، بمدينة دبلن. في عام 1885، التقى في دبلن بالثيوصوفي الهندي موهيني تشاترجي، الذي كان قد وصل المدينة لإلقاء محاضرة. وعن طريقه تعرف على أفكار الفيلسوف الهندي سامكارا، الذي كان يقول بسيادة الذات الشخصية، وعدم واقعية العالم الخارجي. وقد استقال ييتس من الجمعية الثيوصوفية عام 1890. 

وفي عام 1887، كان قد انتقل مع والديه إلى لندن. وتاريخ استقالته من الجمعية الثيوصوفية جاء مباشرة قبل تاريخ انضمامه إلى جماعة الفجر الذهبي، والتي كان يرأسها ماكجريجور ماذرز، والتي كانت تضم في ذلك الوقت الساحر كراولي والممثلة فلورنس فار. 

ومن خلال "الفجر الذهبي"، تعرف ييتس على الحيلة الثرية للرمزية السحرية، التي لعبت دوراً أساسياً في أشعاره. كما كان يهتم بأوراق "التاروت"، وهي شبه أوراق اللعب (الكوتشينة), تستخدمها العرافات عادة للكشف عن مستقبل الزبائن. وكان ييتس يقتني مجموعة من أوراق التاروت، عليها ملاحظاته الشخصية بخط يده. 

وقد انقطعت علاقته بجماعة الفجر الذهبي عندما تفككت إلى عدد من الجماعات عند مطلع القرن.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا